الاستمرار في حرب لا نهاية لها ولا أفق تحولت بفعل الخسائر وتآكل الدعم والخلافات العلنية بين اطراف حكومة نتنياهو الى خيار لا يدعمه سوى نتنياهو نفسه ووزيرين يؤمنان بان مستقبلهما السياسي والاديولوجي معلق باستمرار هذه الحرب وتوسيعها ايضًا. فالحرب التي يقودها نتنياهو بروحٍ انتقامية ستوفر له الوقت الكافي - ربما - لتحقيق انجاز ما كاعتقال أو قتل قادة من الصف الأول في حركة حماس أو تحرير محتجزين اسرائيليين أو - ربما ايضًا - تستسلم المقاومة بسبب الضغط والحصار ونقص المؤن و الذخائر.
وبالمناسبة، فان نتنياهو يملك كل ما يريد لإطالة أمد هذه الحرب، فهناك التغطية الغربية الاستعمارية وهناك الذخائر وهناك اللوبيات الضخمة الجاهزة لتبرير وتبييض وانقاذ اسرائيل من العقاب أو النقد، اذ تملك هذه اللوبيات ما يكفي من أدوات الاغتيال المعنوي والسياسي والجسدي أيضًا لتكميم الافواه واجهاض المواقف.
ولكن الاستمرار في الحرب انتظارًا لحدوث مفاجأة أو معجزة ما، خيار عبثي و جنوني أيضًا. فالاستمرار في الحرب يجر معه الفشل والانكشاف والمساءلة وتشقق الحكومة أو تفككها، أو قد يقود الاستمرار في الحرب الى اضراب شامل في الحياة العامة الاسرائيلية يؤدي الى الدعوة الى انتخابات مبكرة.
الاستمرار في الحرب ليس خيارًا سهلاً أو مضمونًا، فليس هذه ضمانة بان هذه الحرب ستنهي حركة حماس وليس هناك ضمانة بان الاستمرار في الحرب سيضاعف من انجازاتها. بالعكس من ذلك، اذ كلما طالت هذه الحرب كلما تعقد المشهد تمامًا، مع الإدارة الأمريكية رغم ضعفها وارتباكها وتناقضها، ومع مصر رغم رغبة مصر العلنية بعدم التصعيد ومحاولة احتواء الموقف، ومع الاتحاد الأوروبي الذي يسارع بعض اعضائه الى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومع الجمهور الاسرائيلي الذي بدأت قطاعات جديدة تقتنع ان نتنياهو يأخذهم رهائن لرؤيته وسياسته واطماعه، والاكثر أهمية فان هذه الحكومة ذاتها تشهد مواجهات عنيفة وعلنية بين غالانت، الذي يعتقد ان ما تم انجازه في غزة يكفي لإيقاف هذه الحرب، وبين نتنياهو وشركاه الذين يعتقدون ان الحرب لم تنته بعد وانها قد تحقق أكثر مما تم تحقيقه.
و برأيي، فان نتنياهو - الذي يندفع الى هذه الحرب لاهداف متعددة منها شخصية و دينية حقًا - لا يستطيع ان يوقف هذه الحرب الا بسقوطه المدوي. إيقاف هذه الحرب والدخول في تسوية مع المقاومة أو مع غيرها هو انهيار لكل ما ادعاه نتنياهو وروّج له، خصوصًا ان هذا الرجل يريد ان يجعل من حربه هذه اعادة صياغة للتسوية مع الشعب الفلسطيني. فهو يريد القضاء على حركة حماس أمنيًا وسياسيًا ويريد ان ينهي حركة فتح أو تفكيكها تمامًا من خلال محاصرة السلطة الفلسطينية أو اهمالها.
ليس هذا فقط و انما يريد هذا المتطرف ان يفصل بين قطاع غزة وبين الضفة والقدس المحتلتين فصلاً سياسيًا و اداريًا و ديموغرافًا. نتنياهو يريد من خلال هذه الحرب ان يسقط حل الدولتين ليطرح حل الدول الفلسطينية المتعددة والجماعات الفلسطينية المتفرقة، وهذا الحل الذي يحلم به نتنياهو لن يتحقق بسبب الرفض الفلسطيني أولا وبسبب الشروط العربية التي لن توافق على تمويل أو تغطية هذا الحل الذي لا يؤدي إلا الى المزيد من الفوضى والاضطراب، ولن يتحقق مثل هذا الحل بسبب الرؤى الغربية الأمريكية والأوروبية لان مثل هذا الحل سيجعل هذه الدول تدفع ثمن استمرار الصراع وربما بطريقة أشد.
كيف يمكن لنتنياهو ان يخرج من هذا المأزق؟! قد يختار الاستمرار في الحرب ومأزق عدم الرغبة في النزول عن الشجرة، خصوصًا ان المقاومة اعلنت انها مستمرة في المواجهة مهما كلّف ذلك من ثمن.
فهل من الممكن ان تفتح الولايات المتحدة بالتعاون مع اصدقائها في المنطقة ممر خروج آمن لنتنياهو يجنبه الحرج او السقوط؟! و هل من الممكن ان تقرر اسرائيل فجأة - بسبب الخسائر والخلافات المتصاعدة في وجهات النظر وضغط الجمهور - بإعادة الانتشار في قطاع غزة دون الاتفاق مع اي طرف؟!
هذا ما فعلته اسرائيل أكثر من مرة ومن الممكن ان تفعله، وقد تبرر ذلك بالقول انها أنجزت المهمة بنسبة تسعين بالمئة و انها يمكن لها ان تتعايش مع تهديد العشرة بالمئة المتبقية.
الخيار الصعب جدًا والذي لم نشر إليه حتى هذه اللحظة هو خيار التسوية السياسية التي تقوم على إقامة دولة فلسطينية حرة وكريمة ضمن ترتيبات اقليمية و دولية، وهذا من أصعب خيارات اسرائيل التي لم تعد ترى في الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه خيارًا أبدًا.
● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس
2024/08/30 09:44
2024/08/10 19:15
2024/07/23 15:01
2024/07/19 17:20
2024/07/19 16:34