يمكن للمفاوضات ان تنجح في القاهرة هذه المرة، ليس لأن نتنياهو تغيّر، ولا لأن حكومة التطرف أدركت أخيرًا انها لا تستطيع ان تناطح الولايات المتحدة، ولا لأن الاهداف القريبة او البعيدة تغيّرت - هي قد تنجح هذه المرة لأسباب أخرى، مألوفة وأخرى غير متوقعة، ونبدأ بغير المتوقع، ألا و هو التهديد الإيراني بالرد على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق.
إذا لم ترد إيران بشكل يتجاوز الرد الإعلامي أو الرد الرمزي أو المحتمل فأنها ستفقد ليس قوة الردع فقط بل ستفقد حتى القدرة على التحكم بحلفائها أو حيازة احترامهم، اذ ان هؤلاء الحلفاء سيتجاوزنها بكثير، ويبدو ان اسرائيل والولايات المتحدة تأخذان إيران هذه المرة بكثير من الجدية والأهمية.
ولأن الرد الإيراني قد يتدحرج الى حرب لا أحد يريدها، فأنه من الممكن ان تدخل الولايات المتحدة الامريكية وإيران تسوية ما في القاهرة لسحب الذرائع وتبريد جبهة الشمال وتصوير الاتفاق بأعتباره تضحية إيرانية أو انتصار للمحور بشكل أو بآخر. وقد لا يعجب هذا الترتيب المتشددين في اسرائيل ولكن أمريكا تضغط من أجل اتفاق تحتاجه لتقديم إنجاز انتخابي لجمهور أمريكي منقسم وغاضب ومحتقن، وقد يقبل نتنياهو هذا الاتفاق حتى ينسي العالم الغربي على الأقل فضيحة مقتل عمال الاغاثة المأساوية .
ما أفترضه هنا ان التهديد الإيراني قد يدفع بأمريكا ان تدير حوار من وراء الكواليس معها، و هو حوار لم يتوقف أصلاً، من أجل مقايضة الرد الإيراني بأتفاق يقدم للساحات المختلفة بأعتباره نصرًا إيرانيًا استطاعت فيه إيران ان تفعل ما لا تفعله كل الأطراف. وهذا احتمال حدث في الماضي و قد يحدث في المستقبل أيضًا.
ومن الأسباب غير المألوفة لامكانية نجاح المفاوضات هذه المرة ان اسرائيل تنعزل أكثر فأكثر على كل الجبهات الشعبية والاكاديمية والنخب العالمية، وتُحاصَر في الهيئات الدولية، وتتعالى المطالبات والتوجهات في أوروبا بالذات وغيرها للاعتراف بالدولة الفلسطينية وتقليص تزويد اسرائيل بالأسلحة وتداعي دول كثيرة لمحاكمة اسرائيل بتهم فظيعة حاولت اسرائيل جاهدة ان لا يتم إلصاقها بها يومًا. فأسرائيل تفقد صفة الضحية الأبدية وصفة الدولة الديمقراطية والليبرالية، وتتحرك بسرعة شديدة الى خانة أخرى لم تحلم يومًا ان تكون فيها.
هذا التغيّر المتسارع لصورة ودور ووظيفة وسمعة اسرائيل، ورغم ان الجمهور الاسرائيلي لا يرى ولا يسمع انه يبطش في شعب آخر، إلا ان ما يجري في العالم لا يمكن إلا ان يرى و يسمع وان يؤثر أيضًا.
السبب غير المألوف أيضًا ان شرائح واسعة في اسرائيل، وكما قال محللون اسرائيليون ذوو خبرة، باتوا يعتقدون ان الحرب على قطاع غزة بالذات فقدت معناها وجدواها من شهر كانون الثاني الماضي وانها تراوح مكانها لأسباب متعددة ومختلفة، خصوصًا ان هناك خسائر في الأرواح وتراجع في الاقتصاد وتراجع في المكانة الدولية وتدهور في العلاقة مع الاقليم وتدمير لكل علاقة مستقبلية مع الشعب الفلسطيني.
يضاف الى ذلك اسباب أخرى مألوفة ومعروفة منها الضغط الأمريكي العلني ورغبة الادارة الامريكية بمحاصرة نتنياهو واسقاطه لألاعيبه و بهلوانياته، ولذلك فأن اي اتفاق في القاهرة وخصوصا اذا كان حسب الرؤية الأمريكية (ستة أسابيع هدوء و اطلاق سراح 40 محتجزا اسرائيليا) قد يقلل من الضغوط الامريكية وضغوط الشارع الاسرائيلي على نتنياهو، كما ان ذلك من شأنه ان يقلل من حجم التوترات ما بين نتنياهو وبعض وزراء حكومته وكذلك مع المنظومة الأمنية، وقد يقود اي اتفاق في القاهرة الى ان يخرج نتنياهو ووزير حربه غالانت من تبعات الدخول البري الى رفح، لأن دخولها بما يحيط بها من ظروف يعني ان الحرب ستأخذ منحى آخر مختلف تماما. وبكلمات أخرى فأن الاتفاق الذي كان يهرب منه نتنياهو في أول الحرب قد يتحول الى طوق إنقاذ له في آخرها.
سيقول قائل ان ذلك سيقود الى سقوط نتنياهو وحكومته، فأقول ان نتنياهو ما يزال يتمتع بأربعة وستين مقعدًا في الكنسيت أولاً، كما انه سيجعل من هذا الاتفاق مجرد اتفاق تكتيكي، كذاك الذي كان في نوفمبر من العام الماضي ثانيًا، أي اتفاق بدون مضامين سياسية.
● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس
2024/08/30 09:44
2024/08/10 19:15
2024/07/23 15:01
2024/07/19 17:20
2024/07/19 16:34