مناسبة هذا الكلام هي النقاشات التي تشهدها محكمة العدل الدولية حول تبعات الاحتلال وآثاره وانعكاساته في كل المستويات والمجالات وكذلك موقف حكومة اسرائيل الحالية التي صوتت ضد قيام دولة فلسطينية، ووصل الأمر ببعض وزرائها للتهديد بالتخلص من اتفاق أوسلو وتفكيك السلطة الفلسطينية، وكأن ذلك لا يحصل أو لم يحصل بعد، فضلاً عن اجراءات وممارسات حكومة الاحتلال في هذه الحرب الضروس ضد الشعب الفلسطيني.
ان اسرائيل باحزابها ونخبها وزعاماتها وادبائها وعلمائها اختاروا الاحتلال كأسلوب حياة محتمل، أسلوب حياة مكلف لكنه يستطاع، اسلوب حياة قاس ولكن يمكن تجميله او ترويجه او الدفاع عنه.
اختارت اسرائيل على مدى سنواتها ان تحتل شعبا آخر وان تحتمل تبعات هذا الاحتلال حتى الآن، وتبعات هذا الاحتلال كثيرة وعديدة وظاهرة وباطنة وبعضها سريع التأثير وبعضها الآخر بطيء التأثير، فالاحتلال ليس مجرد حدث عادي في التاريخ، انه استثناء منه، وانكسار في طبيعته، وخلل في سيرورته. لهذا ، فأن كل احتلال يجر معه ووراءه واثنائه ظواهر وتداعيات خطيرة وفادحة. واذا كان الاحتلال يؤذي من يقع عليهم الاحتلال، فأنه يفعل ذات الشيء بمن يقوم بالاحتلال.
سلب الحرية من الآخرين يعني بالضرورة اكتساب الخوف والتوتر والعنف لمن يفعل ذلك. و التحكم في حياة الآخرين يعني تماما ان حياة المتحكم لن تكون عادية ولا طبيعية على الاطلاق. فالاحتلال ليس مشروعا اقتصاديا ومربحا، و ليس تحقيقا لرؤية او رؤيا او وهم او فكرة، انه جحيم تماما. فهو يشوه القيم والسلوك، وهو كالفيروس تماما يفتك بالنسيج الاجتماعي ومن ثم يضعف مصادر القوة والمنعة للمجتمع القائم بالاحتلال.
الاحتلال ليس مربحا على الاطلاق، ويؤدي الى طرق مسدودة ودروب شائكة، و هو في نهاية الأمر ككل الأمراض لا بد ان يؤخذ الدواء للخلاص منه، طوعا او كرها، و هو ما رأيناه في كل فترات التاريخ و في كل الاحتلالات.
الاحتلال يعمل بأتجاهين لا بأتجاه واحد، والاحتلال مضر بالاتجاهين لا بأتجاه واحد، والاحتلال مرض يصيب الجميع بجراثيم الكراهية والتعصب والتطرف والرفض والانعزال والعنف والانفجارات المتوقعة وغير المتوقعة، ولأن الاحتلال لا يتم الا بالقوة والاكراه والجبر مع ما يرافق ذلك من خسارات وألم ودموع ، فهو حدث يتحول بفعل الوقت والألم الى معيار للسلوك ومحدد للتوجهات واطار للحركة والفعل الفردي والجماعي.
ان اسرائيل باصرارها على الاحتلال ومصادرة حق الشعب الفلسطيني بالحرية وتقرير المصير واقامة الدولة انما تحكم على هذا الشعب وعلى شعبها أيضا بالدخول كرها أو طوعا الى دائرة لا تنتهي على الاطلاق من الاوهام والاضاليل والادعاءات التي لا تنتهي، دائرة فيها أحكام مسبقة ونتائج مأمولة وتمركز مرضي حول الذات واحساس متورم بالأهمية الدينية والتاريخية.
ولأن الاحتلال - كل احتلال - يحتاج الى اكاذيب كبرى وسرديات شمولية فأن التصدي له والاشتباك معه أيضا يحتاج الى وقود روحي عال وكثيف، و هكذا ، فأن القائم بالاحتلال والذي يعاني الاحتلال يدخلان سجالات لا تنتهي معظمها دموي صاعق .
ان قرار اسرائيل برفض الدولة الفلسطينية هو قرار سيء ورديء، ليس لنا فقط، بل للجمهور الاسرائيلي الذي يتم تعبئته و تحريضه وشحنه والتلاعب به طيلة الوقت، من خلال ضخ الاكاذيب والاوهام في رأسه و قلبه، و هو قرار سيء لنا نحن الفلسطينيين، لأننا نريد دولتنا وحريتنا ومستقبلنا مثل كل شعوب الارض، لسنا افضل ولا أقل من كل تلك الشعوب .
ان اختيار اسرائيل الاحتلال كأسلوب حياة هو اختيار صعب و مكلف وقد اثبتت 75 سنة ماضية انها لا تستطيع ان تحتمل تبعاته ولا آثاره ولا نتائجه.
● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس
2024/08/30 09:44
2024/08/10 19:15
2024/07/23 15:01
2024/07/19 17:20
2024/07/19 16:34