تتعامل إسرائيل معنا – نحن العرب – بكثير من الاستخفاف والاستهانة ولا اريد أن اقول الاحتقار، ذلك ان اسرائيل لا تخفي خططها ولا حتى أهدافها، بل هي تجاهر بها وتعلنها على الملأ جهاراً نهاراً، فما تعلنه اسرائيل عن ما تسميه تعزيز السلطة الوطنية الفلسطينية، هكذا في صَلَف عجيب ووضوح غريب، انما تهدف من ورائه الى تفجير المجتمع الفلسطيني وتمزيق النسيج الاجتماعي دون ان تكلف نفسها بأن تعطي هذه السلطة اي طوق للنجاة أو هامش للحركة أو حتى قدرة على التمثيل، وتبدو هذه الخطوة – خطوة التعزيز- وكأنها جزء من علاقات عامة وذَرٍ للرماد في العيون وحملة اعلامية ترضي بها الولايات المتحدة وتغضب بها الشعب الفلسطيني.
هذه الخطوة الاسرائيلية التي لن يتحق منها شيء – برأيي المتواضع- تأتي للتهرب من الاستحقاقات الاكثر أهمية وضرورية منها التفاوض حول إنهاء الاحتلال أو حتى التفاوض على أقل من ذلك بكثير. وتبدو مسألة التعزيز وكأنها اعادة تأهيل أو انتاج للعلاقة باكثر اشكالها سوءاً. فإسرائيل، وبدلاً من الجلوس الى مائدة مفاوضات حقيقية للتفاوض حول مستقبل احتلالها للشعب الفلسطيني، فانها تريد ان تستعيد ما ثبت فشله. وهذا يذكرني بتقرير اللورد الانجليزي دوفرين الذي ارسله الى حكومته في السنة الأولى لاحتلال مصر حيث ورد ان على انجلترا ان تحكم مصر من خلال طرف مصري موالٍ ومراقب ومطيع، حتى تقع اخطاء الحكم على رؤوس المصريين أنفسهم.
لقد جربت اسرائيل الاستعانة بطرف فلسطيني مقبول "يساعدها" في ادارة احتلالها، ولكنها فشلت جميعاً منذ أوائل السبعينات وحتى يومنا هذا - فشلت فكرة الاعتماد على التشكيلات العشائرية او الجهوية او المصقولة او المصنوعة، وهي تفشل لسبب بسيط جداً، ان اسرائيل لا تريد ان تعطي شيئاً، لا لتلك الجهات ولا للشعب الفلسطيني ايضاً. اسرائيل تريد ان تأخذ كل شيء، الأمن والسلام والتطبيع والهدوء ودوام الاحتلال. لهذا، فان فكرة تعزيز السلطة الوطنية الفلسطينية بهذه الفجاجة والفظاظة التي تطرحها حكومة الاحتلال انما تعمل على تفجير الشارع الفلسطيني لا أكثر، ونربأ حقاً بالسلطة الوطنية الفلسطينية ان لا تتعامل مع هكذا خطوة، التي لا تريد إسرائيل من ورائها سوى تلميع وجهها والخروج من أزمتها، هذا فضلاً عن ان حكومة اسرائيل ذاتها غير متفقة على هكذا خطوة، اذ صرنا نسمع ان وزير المالية لا يريد ان يوقع على رزمة تلك المساعدات للسلطة، وان نتنياهو سوف يجد طريقة الى التسوية. فاذا كانت حكومة الاحتلال غير متفقة ولا منسجمة، فلماذا نقوم نحن باخراج هذه الحكومة من دوامتها؟ ولان هذه الخطوة كاذبة واعلامية ولها اهداف خطيرة، فان رئيس وزرائنا قال ببساطة: اعيدوا الينا اموالنا أولاً. ان كل ما تتحدثون عنه هو اموالنا المنهوبة. وهي جملة كافية لنسف كل ما قيل.
لكن، ولأن اسرائيل تستخف بنا نحن العرب، فانها تتجبّر حتى في شروط تطبيعها مع العالم العربي. فاسرائيل لن تتنازل في الموضوع الفلسطيني ولن تقبل بمساعدات عسكرية لاي طرف عربي قد تشكل خطراً عليها ولن تقبل التطبيع باي ثمن. أكثر من ذلك، قال نتنياهو ساخراً ان الكلام عن القضية الفلسطينية اصبح جزءاً لا بد عنه في اي لقاءات مع اطراف عربية، ولا يجب الامر ان يكون كذلك: "نحن نستطيع ان نقيم علاقات مقبولة بدون اتفاق". نتنياهو يقول ذلك باعتبار ان العالم العربي فارغ وليس فيه شعوب ولا كرامات ولا حقوق.
استخفاف اسرائيل بنا واستهتارها بمشاعرنا ومصالحنا تشبه في بعض اوجهها تكرار حرق مصحفنا في العواصم الغربية وسكوت الصحافة والساسة والنخب في الغرب او حتى دفاعها عن ذلك. هناك استخفاف حقيقي بنا.. والأمر كله لله من قبل ومن بعد.
● الكاتب هو رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية – جامعة القدس
2024/08/30 09:44
2024/08/10 19:15
2024/07/23 15:01
2024/07/19 17:20
2024/07/19 16:34