لا أحيد عن الصواب إذا قلت إنَّ وعيَ النكبة في العشائر البدوية في شمال البلاد هو نسبيًّا هامشيٌّ، مقارنةً مع فئات أُخرى من مجتمعنا الفلسطيني، ويتجسد ذلك بالمشاركة المحدودة: في إحياء ذكرى النكبة، أو في الكتابة حولها؛ في فعاليات زيارة القرى المهجرة، وفي الجمعيات والمؤسسات الوطنية الناشطة في مجال حق العودة. عدا عن حالات فردية، لم أجد مساهمة جماعية لأبناء العشائر البدوية في هذه المجالات وغيرها. أقول هذا خاصة في ضوء حجم التهجير والاقتلاع اللذيْن أُلِمَّا بجميع العشائر الفلسطينية، كبقية أبناء فلسطين. وأستبق وأقول: إن تحديد الوعي بدرجة الضرر الذي لحق فئة ما من المجتمع الفلسطيني، هو عمل غير أخلاقي أصلًا؛ فالنكبة عامة وشاملة، والجرح الفلسطيني غير قابل للمُحَاصَصة. ولكن، هامشية الوعي بالنكبة، وسلوكيات بعض أبناء العشائر البدوية (في شمال البلاد)، والذين يتفوهون أحيانًا بعبارات ساقطة وتافهة حول العلاقات الخاصة بين الحركة الصهيونية والبدو، او بينهم وبين الدولة، ومن هذا البعض مَن انخرط حتى المَهَانة في الأحزاب الصهيونية، واليمينية منها، ومن ذات البعض من سَقَط وتَجنَّد، وآخر جُنِّد وسَفُلَ، كل هذا يدفع المرء للتساؤل، وهو تساؤل مشروع في هذا السياق،عما إذا استثنت الصهيونية وعصاباتها العسكرية العشائر البدوية من الاقتلاع والتهجير ومن غيرهما من الجرائم التي ألحقتها بأبناء فلسطين.
والإجابة هي: لا مطلقة؛ العشائر البدوية عانت النكبة الفلسطينية بجميع ألوانها، وآلامها، وويلاتها، ونجد من هذه العشائر من هُجِّرت بِرُمَّتِها؛ فقد هُجِّرَ في منطقة بيسان-على سبيل المثال- كلٌّ من عرب الصقر، والغزاوية، والدلايكة؛ وطرد عرب الطوافرة والوهيب من جنوب طبريا؛ ومن شمالها، ومن ضواحي صفد، هُجِّرت عدة عشائر، ومنها: التلاوية، والقديرية، والسمكية، والشمالنة، والصويلات، والخرانبة. كما هُجِّرت الغالبية العظمى من عشائر منطقة الحولة؛ وكذالك الأمر بالنسبة لعرب الرمل، والقليطات، والقميرات، والتي سكنت في المنطقة الشرقية والجنوبية من عكا؛ كما هُجرت جميع عشائر عرب التركمان من مرج ابن عامر والمنطقة المحاذية له، وهذه القائمة جزئية، وتتطرق لمنطقة محددة من فلسطين.
وعشائر أُخرى طُرِد معظم أبنائها؛ مثل المواسي، والصبيح، والسمنية، والجنادي، والسواعد، والسويطات، والعرامشة. وحتى عشيرة الهيب، والتي تعامل أحد مشايخها؛ وهو حسين المحمد، أبو يوسف مع الحركة الصهيونية، ولاحقًا مع السلطات الإسرائيلية، تمَّ تهجير معظم أبنائها في النكبة الفلسطينية، ومنهم أحفاد الأخير وإخوته، ومنهم علي المحمد العلي، والذي اُعتقل بتهمة "تسلل" للبلاد في خمسينيات القرن الماضي. كما اعتقلت أجهزة المخابرات الإسرائيلية محمد ابن أبي يوسف؛ ومن المفارقات الفلسطينية أنَّ هذا الابن اعتقل أكثر من مرة بقضايا أمنية تتعلق باتصالاته مع أقربائه عبر الحدود السورية، وأُحضر مقيد القدمين واليدين إلى جنازة أبيه عام 1972، والتي حضرتها قيادات صهيونية إسرائيلية، مثل يغال ألون (Yigal Alon). ومن عشيرة الهيب، المرادات، من اِنْتَظَم في المقاومة الفلسطينية، واستشهد خلال اجتياح لبنان عام 1982، وفي صبرا وشاتيلا، وفي حرب المخيمات الفلسطينية، كما هو حال جميع العشائر الفلسطينية المهجرة في لبنان وسوريا.
لا توجد ولو عشيرة بدوية واحدة لم يهجر من أبنائها وبناتها خلال النكبة؛ ووفقًا لإحصائيات إسرائيلية، ما يزيد على 70% من أبناء العشائر الفلسطينية في شمال البلاد، تمَّ تهجيرهم واقتلاعهم خلال النكبة وبعدها، وتشهد على ذلك مخيمات اللجوء الفلسطينية، والمَسْكُونة بكثير من أبناء العشائر البدوية.
والكثيرون ممن بَقُوا، مثل، المواسي، والنجيدات، والحجيرات، والجنادي، والسواعد، تمَّ تهجيرهم بالتهديد والترهيب من مساكنهم الأصلية، إلى مناطق أخرى في البلاد، وذلك لحصرهم في بقعة محدودة من الأرض. مثلًا، جُمِّع أبناءُ الحجيرات، والذين سكنوا في الظهرة، شرق كوكب أبو الهيجا، في بير المكسور؛ كما ومُورِسَت ضغوطات كبيرة على حجيرات الصوالحة لنقلهم من أراضيهم في المكمان إلى بير المكسور، ولكن معارضة السكان ومقاومتهم نجحت بإفشال المشروع. وبعض مساكن الحجيرات ما زالت قائمة في الظهرة، وكذلك آثار البيوت التي هدمت وصودرت. صحيح أن بعض أبناء العشيرة وقَّعُوا عقدَ تبديل أراضيهم في الظهرة بما يقابلها في بير المكسور، إلا أن هذا التبديل حدث تحت وطأة التهديد المباشر، أو غير المباشر، وذلك بواسطة السماسرة، والذين استخدموا أساليب توصيل "رسائل" للشخص المستهدف بأن السلطات تتهمه بحيازة بارودة، أو بإيواء "متسللين" ومطلوبين، وأن معاندة الدولة (وما ادراك ما الدولة!) قد يؤدي لاعتقاله أو لطرده من البلاد؛ والحال حال حكم عسكري حيث لا قانون سوى الحاكم العسكري، ورجالات الأمن، وعملائهم. ولا حاجة للقول إن مثل هذه العقود المبرمة تحت الترهيب، فاقدة لكل شرعية قانونية وغيرها.
أضف على ذلك المجازر التي تعرضت لها عشيرَتَي الصبيح والمواسي في ال 48، وأبناء عشيرة السمنية في مخيمات اللاجئين في لبنان عام 1982. كما وقدمت هذه الفئة، وعلى مدار النضال الوطني الفلسطيني، الكثير من المناضلين والشهداء، أكان في فلسطين، أم خارجها: في لبنان، وسوريا، والأردن. ومع ذلك، ومع شمولية النكبة، ما زالت النكبة، وذاكرتها، مهمشة في وعي أبناء العشائر في شمال البلاد، كتابةً وممارسةً؛ فلا توثيق، ولا معرفة للأحداث وللمكان، ولا لسير الثوار، والمناضلين، والشهداء، ولا تكريم، ولا طقوس تذكر. وهذا الأمر يدعو إلى المراجعة والدراسة، وخاصة في ضوء انحراف قلة قليلة من أبناء العشائر، وسكوت معظمهم، وأضف عليهما التجاهل الفلسطيني العام لتاريخ هذه الفئة، ولنضالها ولمعاناتها.
2024/11/05 16:34
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48