إسرائيل هي التي اخترعت مفهوم "اليوم التالي"، كأنها ضمنت نتائج اليوم الحالي، وكأنها عرفت وتأكدت وانتهت من مشاكل وتبعات اليوم الحالي، وكأنها لا ترى ما الذي يحدث في اليوم الحالي، وكأنها انتصرت و لم يبقَ عليها سوى تصميم المستقبل وتأثيث المشهد وترتيب الأوضاع وتوزيع الدعوات على الحضور المناسبين، وكأنها ضمنت ردود أفعال جمهورها وأفعال الاقليم وأفعال العالم.
إسرائيل لأسباب متعددة أخترعت نظرية "اليوم التالي" من اجل بث إشاعة كبرى تتوهم من خلالها انها حققت أهدافها وأنجزت مهمتها ولم يبقَ سوى توزيع ألادوار وإخراج المشهد وتلقي الجوائز وإنتظار التصفيق.
المفارقة في هذا كله، ان كثيرًا من الاطراف بما فيها الفلسطينية، او بعضها على الأقل، اشترك في مسرحية الوهم هذه، وصارت اطراف كثيرة تدلي بدلوها وتعرض رأيها وتجتهد بفتاوي غريبة وعجيبة، وانشغل الناس بـ"اليوم التالي" وكأنهم لا يعيشون في اليوم الحالي، وكأنهم لا يرون ما يجري في اليوم الحالي من مشاهد وفظائع ودماء.
والمفارقة، هنا أيضًا، ان المجتمع الدولي، وهو تعبير يشمل العالم الغربي صانع القرار في منطقتنا والمهيمن على مصائر شعوب وأنظمة وحدود وثروات - ان هذا المجتمع الدولي بصمته وهدوئه وترفعه واستعلائه ودعوته الانيقة للهدوء او الالتزام بالقانون الدولي الانساني، ساهم ويساهم في الترتيب لـ"ليوم التالي" بالسكوت عما يجري في اليوم الحالي، او ربما، وهو الأكيد، يساهم اكثر من السكوت بكثير جدًا.
والفرق بين اليوم الحالي و"اليوم التالي" حسب الرؤية الاسرائيلية يتعلق بتصميم أمني وسياسي، ليس لقطاع غزة فقط وانما لمجمل الاراضي الفلسطينية المحتلة وكذلك ترسيم العلاقة مع الشعب الفلسطيني بالتنسيق مع اطراف اقليمية ودولية متعددة.
"اليوم التالي" كما تريده إسرائيل يومًا هادئًا و نظيفًا و مشمسًا على اسرائيل فقط، بمعنى ان تكون غزة هادئة هدوءً يشبه هدوء المقبرة او هدوء الصحراء او كليهما، منطقة مسيطر عليها ويسجل عليها كل نقطة ماء او نقطة وقود او حبة دواء او حفنة غذاء، بدون تمثيل سياسي ولا طموح او أفق قومي، ولا علاقة لها بالضفة المحتلة ولا تأثير لها على مجمل الأحداث.
وليس هذا فقط ، وإنما ان يحدّد فيها سكانها، عددًا و انتماءً و توجهات، اي ان التفتيش الدقيق لا يشمل الشاحنات الداخلة الى القطاع فقط، بل يصل هذا التفتيش الى القلوب والافعال ايضًا، وقد تفتق الذهن الاسرائيلي في مسألة تصميم "اليوم التالي" الى طرح عشرات الافكار المناسبة لادارة قطاع طالما ازعج اسرائيل وصنع كوابيسها، وكان آخرها ان تقوم العشائر بادارة القطاع خدماتيًا، وقد يتطور ذلك الى الادارة السياسية في انتاج رديء لفكرة روابط القرى التي انتهت الى ما انتهت اليه.
ان فكرة حكم العشائر هي فكرة استعمارية قديمة بدأت منذ الثلاثينيات من القرن الماضي وهي تأسيس على إرث انجليزي قديم، وإسرائيل لا يمكنها ان تخترع الماء الساخن كما يُقال، فهي تريد ترجمة القانون الاستعماري الشهير "فرق تسُد" على الحالة الفلسطينية من خلال ادوات جهوية تارة، وحزبية تارة اخرى، وعشائرية تارة ثالثة، وفي كل مرة، يعود الصراع على اشدّه.
أعود الى "اليوم التالي" الذي تريده اسرائيل وكأنه ممر هروب او قارب نجاة لما يجري من احداث في اليوم الحالي، وهو فقط الذي سيقودنا الى يوم تالٍ غير الذي تحلم به إسرائيل او تريد تصميمه في خيالها الجامح.
● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس
2024/11/05 16:34
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48