ولكن ينبغي أن نتنبه الى أن هذا الاعتبار الثلاثي الابعاد قد يكون صحيحا مطابقا لواقع الحال، أو ربما كان تبريرا لفشل الانسان في تدبير شؤونه، والاستجابة لتكليفات حياته وتحديات واقعه ، فيصبح " الابتلاء " بهذا المعنى شماعة لاخطائنا وفشلنا في تدبير وإدارة شؤوننا. وأبشع ما في هذا الاتجاه، اننا نحمِّل الله الخالق سبحانه مسؤولية ما اقترفت او اكتسبت أيدينا، فضلا عن عدم تحمل مسؤولية مصائرنا افرادا وجماعات.
ولذلك فيحسن أن نعالج المفهوم وتوظيفه العملي في حياتنا وخطابنا العام من خلال مدارسة استقرائية وتحليلية في القران الكريم.
يعتبر مفهوم " الابتلاء " من المفاهيم الاساسية في منظومة التفكير الاسلامي، المستمد من وحي الكتاب والسُنَّة.
ومدار مفهوم " الابتلاء " في القران الكريم على " الاختبار والامتحان " وله مرادف آخر هو " الفتنة "، إذ تأتي أيضا في بعض المواضع في القرآن بمعنى الابتلاء والاختبار والامتحان، قال امام المفسرين ابن جرير الطبري : " وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون" ، وقال تعالى: " احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا امنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين".
ويلاحظ أن مسألة الابتلاء مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة الخلق والموت والحياة ، حتى اعتُبِر الابتلاء سُنَّة من سنن الله الجارية، وغاية من غايات الخلق والموت والحياة، وبالتالي ليس أمرا طارئا او نازلة مفردة، وهذا واضح جلي في العديد من الايات القرانية الكريمة، منها قول الحق سبحانه: " وهو الذي خلق السماوات والارض في ستة ايام وكان عرشه على الماء ليبلوكم ايكم احسن عملا " وقوله سبحانه " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملا " وقوله تعالى " انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا"
ومقصود الخطاب الشرعي واضح في أن علة وغاية خلق الانسان، هي ابتلاؤه أي اختباره وامتحانه بما تقتضيه حكمة الله من تكاليف شرعية وضرورات حياتية ونوازل كونية ومدافعات بشرية. ومقصود الابتلاء في القرآن الكريم واضح أيضا فهو للتمحيص والتبيين والكشف عن حقيقة الانسان لتقام الحجة على العبد المكلف فيثاب على ما كسب ويذم على ما اكتسب.
والاستجابة للابتلاءات المتعددة بالكييفيات المختلفة هي تعبير عن قيام هذا الانسان بواجباته الشرعية وتصديه لضرورات حياته ، بمعنى أوضح هي طاعته لله ومعنى عبادته لخالقه. فالله يبتلي الانسان في تحقيق معاني الايمان والاسلام كالمحبة والخشية والصبر والشكر والتوكل واليقين، وكذلك في تحقيق معاني الاستقامة على طريقه بالعمل الصالح والخلق الحسن والسلوك الحميد واعمار الارض بالعدل والحق، والدعوة الى الخير والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ومدافعة الباطل والانتصار للمظلوم ودفع العدوان وغيرها من التكاليف الشرعية والعقلية الضرورية لحياة الانسان فردا وجماعة.
وقد أوضح القران الكريم الاتجاهات المتعددة للابتلاءات في أكثر من سياق في القران الكريم نوردها من غير تفسير لعل القارئ يعود لمدلولاتها في سياقاتها القرانية، فقال تعالى: "وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون"
وقال: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين "
وقال: " وهو الذي جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما اتاكم ان ربك سريع العقاب وانه لغفور رحيم"
وقال: " فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى اذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق فاما منا بعد واما فداء حتى تضع الحرب اوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل اعمالهم"
وقال: " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو اخباركم" وقال: " هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ".
أما في مجال التوظيف لسنة الابتلاء فالمرجو ان تقتصر على ما حدده الشرع في قوله تعالى: (ليبلوكم ايكم احسن عملا ) وقوله ( فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) وقال تعالى: ( ليبلوكم في ما اتاكم فاستبقوا الخيرات ) وقال تعالى: (لتبلون في اموالكم وانفسكم ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا اذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الامور) وقال تعالى: ( وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ) . أي انها - الابتلاءات والاستجابة لها - تعبير عن مدى نجاح الانسان في الاستجابة لمقتضيات التكليف الشرعي والحياتي ونجاعة أدائه في ميادين الحياة وحسن تدبيره لشؤونه.
فلا يقول الانسان عصيت الله لأن الله ابتلاني بالشهوات، بل يقول اني عصيت الله بما اكتسبت يداي وغفلت نفسي وضعفت عزيمتي فيستجيب من فوره لله والرسول بالتوبة والطاعة والانابة.
ولا يشتكي الانسان الفقر والجوع وذل السؤال، لأن الله ابتلاه فقبض عليه الرزق، بل يقول إني لم أطرق أبواب الرزق بالعزم والعمل والاتقان فيفتحها لي الرزاق.
ولا يدعي الانسان ان السيول والامطار اهلكت الزرع والحرث، لأن الله ابتلانا بالمطر الغزير من السماء، بل يسأل نفسه لماذا لم يبن السدود ويجري القنوات والانهار. ولا يقول إن الزلازل هدمت العمران لأن الله سخرها علينا بلاء وعقابا، بل يبني العمران ويعزز دعائمه مستعينا بقواعد الهندسة والعلم ويحارب الفساد.
ولا يقول الانسان إن الظالمين تآمروا علينا ومزقوا بلادنا واحتلوا أرضنا لأن الله سلطهم علينا وابتلانا بهم، بل إننا ضيعنا مصدر قوتنا وسر منعتنا وغفلنا عن عدونا، حتى طمع فينا واستسهل غزونا وتفريق جمعنا.
إن الاشتغال بأحصاء انواع وأعداد الابتلاءت كلها لن يسعفنا في تجاوز ما نحن فيه من فشل الاستجابة لها، الا أن نغير منهج تعاملنا مع المفهوم ودلالاته واستحقاقاته من القران الكريم وسنة الرسول الامين صلى الله عليه وسلم .
وأخيرا اعتقد ان معالجة أعمق لسنة الابتلاء لا تكتمل الا بمراجعة معمقة لمفهوم القدر والقضاء ودورنا في تحديد مصائرنا ومكتسبات افعالنا.
2024/11/05 16:34
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48