بدأ المحلّلون الإسرائيليّون والإعلاميّون والمراقبون ومعهم بعض المرجفين من العرب والفلسطينيّين، مع بداية نهاية الشهر الثالث من الانتفاضة، يرفعون الصوت عاليًا عبر وسائل إعلامهم وفي ندواتهم وحواراتهم ومقالاتهم، ومعهم جمهرة من الأمنيّين الذين يدعمون أقوالهم بالتقارير الأمنيّة، ومعطيات جهاز الشرطة وبيانات وزارة الداخليّة الإسرائيليّة، يدّعون أنّ الانتفاضة بدأت تخبو، وأنّ ألسنة لهيبها التي كانت تتصاعد وتخيف أخذت تتراجع، ولم تعد لها تلك القوّة التي تميّزت بها، أو ذلك الاندفاع الذي عُرِفت به، وبدأ الشارع الإسرائيليّ يلمس هذه الحقيقة التي يمكن حسابها بالأرقام والتأكّد منها بالبيانات والإحصاءات، وإجراء المقارنات والدراسات.
يدّعي الإسرائيليّون أنّ عمليّات الطعن والدهس ومختلف أشكال العمليّات الأخرى قد تراجعت نسبيًّا، ولم تعد بذات القوّة والشدّة والتتابع والاستمرار الذي عُرِفت به، ففي الشهرين الماضيين كانت تقع أكثر من عمليّةٍ واحدةٍ في اليوم الواحد، في المدينة نفسها أو في أماكن أخرى، وكانت العمليّات تقع في الليل والنهار، وفي الصباح والمساء، وفي الأماكن المتوقّعة وفي غيرها ممّا كان مستبعدًا وقوعها فيها، إذ كانت تتّصف بالأمن والحصانة الخارجيّة والمنعة الداخليّة. أمّا الآن، فإنّ عمليةً واحدةً تقع كلّ ثلاثة أيّامٍ تقريبًا، وأغلبها تتمّ نتيجة الاشتباه والخوف، ويقتَل فيها المشتبه فيهم بينما لا تقع في صفوف العدوّ أيّ خسائر تذكَر، وقد تراجعت حدّة العمليات بصورةٍ ملموسة في مدن القدس ورام الله وغيرهما، ومدن الداخل والنقب، وإن كانت لا تزال تقع وتتكرّر في مدينتي الخليل ونابلس وبلداتهما.
يرفض الإسرائيليّون اعتبار عدد الشهداء الفلسطينيّين وأعداد الجرحى والمعتقلين معيارًا في تحديد مستوى الانتفاضة، وادّعاء تراجعها وانخفاض مستواها، أو التوهّم بقوّتها وفعّاليّتها، بل تعتمد في قرارها وتقييمها على عدد العمليّات الحقيقيّة والتي يتمّ فيها طعنٌ بالفعل أو محاولة طعن، بالإضافة إلى عدد القتلى والمصابين الإسرائيليّين جراء هذه العمليّات، بغضّ النظر عن عدد الشهداء والجرحى الفلسطينيّين.
لهذا يرَوْن أنّ عدد العمليّات وحجم الخسائر الإسرائيليّة في الفترة الأخيرة بالمقارنة مع الشهرين الماضيين أقلّ بكثير، وإن كان عدد الشهداء الفلسطينيّين في تزايدٍ مستمرّ، ذلك أنّهم يعترفون أنّهم يمارسون القتل بصورةٍ كيفيّة ومزاجيّة، ويقوم بارتكاب جرائم القتل الجنود والمستوطنون معًا، ويعتمدون معايير الشكّ والظنّ في قرارهما باستخدام الأسلحة الناريّة التي تؤدّي غالبًا إلى القتل، وإن كان الكثير منها انتقاميّ وثأريّ ويقوم على الحقد والكره والعنصريّة. لكنّ عدد عمليّات القتل "الضروريّة" التي تكون بقصد الصدّ والمنع، أو التي تقوم على الشكّ والظنّ، أو تلك التي ينفّذها المستوطنون بقصدٍ وعمدٍ، وبطريقةٍ ثأريّة وانتقاميّة، وبشكلٍ غير قانونيّ، فإنّ مجموعها الذي هو أقلّ من سابقه أيضًا، لا علاقة له بتحديد مستوى "العنف" في المناطق.
ينطلق الإسرائيليّون في تحليلاتهم واستنتاجاتهم من قاعدة الأماني والأحلام، ويريدون إسقاطها على الواقع الفلسطينيّ بالقوّة، ويحاولون ذلك من خلال تطويع الأرقام، ولي أعناق الحقائق، وتزييف المعطيات، ليتمكّنوا من الوصول إلى النتائج المأمولة والمقصودة، التي هي نتائج معدَّة مسبقًا، واستنتاجاتٌ مكتوبة ومجهَّزة من قبل آخرين لا يعيشون الواقع، ويأملون ويحلمون، ويخدعون ويكذبون، ولا يعتمدون المعايير العلميّة، ولا يتحلّون بالمصداقيّة والنزاهة، وإنّما يفترضون الوقائع ويفرضون النتائج، ويريدون أن يصلوا إلى غايةٍ ونتيجةٍ تخدم أهدافهم، وتحقّق مرادهم، وتساعدهم في تجاوز الأزمة التي يمرّون بها.
لهذا كانت التوقّعات الإسرائيليّة والتنبّؤات الكثيرة بقرب انتهاء الانتفاضة وبدء مرحلة تراجعها، كي تطمئن الإسرائيليّين الخائفين، وتبعث في قلوبهم بعض الثقة والإحساس بالأمان، وتقول لهم إنّ الأيّام الماضية لن تتكرّر، والمستقبل سيكون أفضل وأحسن، فلا داعي للقلق والتوجّس، والريبة والخوف، ذلك أنّهم يشعرون بخوفٍ من استمرار الانتفاضة، وامتدادها كسابقاتها لسنوات طويلة، في ظلّ عجز الجيش عن احتوائها والسيطرة عليها، وفشل الأجهزة الأمنية في ضبطها وتعقب نشطائها، فتجمّد حياتهم لسنواتٍ، وتعطّل مستقبل أجيالهم وشبابهم، الذين باتوا يشعرون بقلقٍ على مستقبلهم في ظلّ استمرار حالة التوتّر العامّة في البلاد.
في الوقت نفسه يريد العدوّ الإسرائيليّ بتوقّعاته وتنبّؤاته، وأحكامه وافتراضاته، أن يحبط الفلسطينيّين ويضعف عزيمتهم، وأن يبعث فيهم اليأس والقنوط بدل الأمل واليقين، وأن يقول لهم إنّ ما قدّمتم قد ذهب هباءً، وإنّ شهداءكم قد خسروا حياتهم وفقدوا عائلاتهم، ولم يستمتعوا بالعيش مع أسرهم، إذ لم يتحقّق شيئًا مما كانوا يحلمون به، ولم تنجز الانتفاضة ما كانوا يتطلّعون إليه، وإنّ الطريق الذي سلكوه ليس هو الطريق السليم ولا النهج الصحيح، وإنّ عليهم أن يراجعوا أنفسهم وأن يتوقّفوا عن انتفاضتهم، لأنها لن توصلهم إلى شيء، ولن تعود عليهم بغير الخسارة والفقد. يوحي الإسرائيليّون في دراساتهم أنّهم أقدر على الصبر من الفلسطينيّين، وأنّهم أقلّ عرضةً للخسارة منهم، وأنّ قتلاهم وخسائرهم أقلّ بكثير من المتوقَّع.
سلطات الاحتلال الإسرائيليّ تدرك تمامًا أنّها تكذب على نفسها، كما تكذب على شعبها، وتخدع كلّ من وثق بها وصدقها، فهي تعلم تمامًا أنّ هذا الشعب قد هبّ وانتفض، وانطلق وانعتق، وثار وانقلب، وأنّه لن يلتفت إلى الوراء، ولن يتراجع إلى الخلف، كما لم يعر من قبل العوائق والصعوبات أيّ اهتمام، ولم يستجب للمثبّطين المحبطين، ولم يقبل بحال اليائسين القانطين، ولم يشك من ضعف، ولم يسل~م بذلّ وهوان، وأنّه عندما انطلق وانتفض كان يعرف أنّها انتفاضة، وأنّها شكلٌ من أشكال المقاومة، تقوى وتضعف، وتشتدّ وتهدأ، وتعلو وتهبط، وتسرع وتبطئ، ولكنّها في النهاية تصل إلى غاياتها، وتحقّق أهدافها، مهما عظمت التحدّيات، واشتدّت المحن والصعاب، وطغى العدوّ وبغى، وتجبر واستعلى، فإنّه وقوّته وسلطانه وما بنى إلى زوال، وأنّ هذا الشعب سيبقى في ثبات وإلى بقاء.
بيروت في 22/1/2016
2024/11/05 16:34
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48