رأي

د. أحمد رفيق عوض

رقصة صاحب الارض

الشاب الملثم، الطويل الفارع، اندمج في لحظته المذهلة، ومد ذراعيه بحجم الفضاء كله. لم ير اطارات السيارات وهي تحترق وتنفث رائحة ثقيلة في الجو، ولم ير الجرحى وهم بتساقطون حوله. فقد قالت له الأرض: ارقص لي ايها الفتى، ارقص في حضني، افرح بين ذراعي
تعبيرية

الشاب الطويل الفارع، الغض النضير، كان يعرف انه قد يقتل برصاصة تأتيه على حين غرة، من جندي في مثل عمره، ولكن الشاب الملثم الذي انتشى لرؤية سحابة ملونة فوقه، و لنسمة باردة تلمس جسده، ولحماسه الشباب حوله و هم يغنون للبلاد المقيدة و المسيجة، انتشى لكل ما يرى، للجموع الحالمة، وللعصافير والاناشيد والمدى المسحوب على طول الجدار وطول البحر معا، نشوة  انسابت في قلبه، فنبض بها، فانتشرت في عروقه كلها، وصلت قدميه، دقه بهما الارض التي انتبهت لوليدها، تبادلا الوشوشات و الاسرار، فتحت له كراسها العميق وحكاياها البعيدة، قالت له الارض: ارقص لي ايها الفتى، ارقص في حضني افرح بين ذراعي.

الفتى، من جهته، امتد واستطال، مد ذراعيه بحجم الفضاء كله، استوعب المشهد، تناهت الى اذنيه اصوات الجموع من حوله، احس بلوعة القلوب الواجفة والدماء الراعفة، ضجت في شرايينه موسيقى جليلة، تحرك على ايقاعها، شاغل بها الارض قليلا، دفعته الارض بحنان كبير، شعر بحنانها الدافق الدافىء، دق صدرها مرة اخرى، فتدافعا كأم ووليدها. يتلامسان، ويتهامسان، لا يقصدان من ذلك سوى تأكيد المحبة والالفة. 

"نسي الشاب الفارع النضير كل شيء واندمج في رقصته" | تعبيرية

الشاب الطويل الفارع، الغض النضير، والمزنر برموزه واشاراته، اندمج في مشاغباته ومشاغلاته مع امه الممتدة والعميقة والقديمة والغامضة، تعاطى معها الاسرار والحكايات، فرد جسمه في الفضاء، ومد ذراعيه الى اقصاهما كانه ينادي كل شيء حوله، فرحا والقا وانتصارا وفخرا وعزا وكرامة.

دار حول نفسه، ودق قدميه في الارض كأنه يزرعهما، شعر بخفة ما بعدها خفة، و اريحية عجيبة تجعله كالطير، وطرب داخلي يدفع به الى نسيان كل ما حوله سوى هذه اللحظة العجيبة التي تشده الى سرّة هذه الارض وسرها، اندمج في لحظته المذهلة، نسي سنوات سجنه الثلاثة، وشقيقه الشهيد و قصف مخيمه بدون تمييز، وحكايات جده عن الطرد و اللجوء، وفقره و ضيق منزله، ونسي ما قيل عن الوحدة الوطنية او يقال، وما يشاع من نمائم عن فلان و علان، ولم ير صف الجنود المختفين وراء كوى جدار قبيح وكالح، ولم ير اطارات السيارات وهي تحترق تنفث رائحة ثقيلة في الجو، ولم ير الجرحى وهم بتساقطون حوله.

 نسي الشاب الفارع الطويل، الغض النضير، كل شيء، واندمج في رقصته، يطير بها ويمتد وينتشر وينطوي ويموج ويهيج ويتموج في لحن مذهل يمسك تلابيب قلبه ودماغه، لحن لا مثيل له، اشبه بالحفيف او الخرير او العزيف او الخشخشة او الزلزلة، لحن يصهل في الدم، يتفجر ويتبعثر وينتعث كذرات التراب او التبر لا فرق.

 اللحن استولى على الشاب الفارع الطويل، الغض النضير، استولى عليه تماما، فما عاد يدري من دنياه سوى هذا الالق والوهج العجيبين اللذين يقودانه ويبعثرانه ثم يجمعانه من جديد على صدر الارض الوارث الرحيب .. الارض التي رأت وليدها يغيب في عليائها و يندغم في تضاعيفها، حنت الى قبلة منه لترتاح و يرتاح هو ايضا .. الشاب الطويل الفارع، الغض النضير. 

● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس

bar_chart_4_bars مقالات متعلقة

ماذا وراء الرصيف العائم في غزة؟!

2024/05/07 16:03

الهجوم على المقر.. والدعوة إلى الحوار

2024/04/27 18:34

بداية التغيير في القيادة الأمنية...

2024/04/26 12:08

اجتماع السبعة: خطاب الاستعداء؛ اجتماع...

2024/04/22 18:52

أين يذهب التحليل الآن؟

2024/04/20 10:06